بيان مصطلحات الحديث عند الإمام الترمذي .
إن الإمام الترمذي قسم الحديث من حيث القبول والرد إلى ثلاثة أقسام: "صحيح" و "حسن" و "غريب". وهذا التقسيم لم يكن مشهورا من قبل.
قال ابن تيمية: أول من عرف أنه قسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف أبو عيسى الترمذي ولم تعرف هذه القسمة عن أحد قبله[1].
وقال ابن رجب: اعلم أن الترمذي قسم في كتابه هذا الحديث إلى صحيح وحسن وغريب وقد يجمع هذه الأوصاف الثلاثة في حديث واحد وقد يجمع منها وصفين في الحديث وقد يفرد أحدها في بعض الأحاديث([2]).
أنواع الحديث في السنن:
الإمام الترمذي لا يكتفي ببيان نوع الحديث من حيثية واحدة بل يمزج هذه الاصطلاحات فتتكون من هذه الثلاثة العبارات التالية:
"صحيح غريب" "حسن غريب" "حسن صحيح" "حسن صحيح غريب".
فأنواع الحديث صار سبعة في كتابه:
"صحيح" و "حسن" و "غريب" و "صحيح غريب" و "حسن غريب" و"حسن صحيح" و"حسن صحيح غريب". والإمام الترمذي كان في عصر ازدهار العلم وعصر الأئمة يعلم كل واحد هذه الاصطلاحات والأنواع ولذا ما فسر الأنواع هذه لكنه فسر بعض مصطلحاته لأنه تفرد به.
فأولا أقدم تعريف الأنواع الثلاثة "صحيح" و "حسن" و "غريب" ثم نقدم بيان مصطلحات الإمام.
تعريف الحديث الصحيح:
أقدم تحديد للحديث الصحيح تحديد الإمام الشافعي.
قال في الرسالة: ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورا.
منها: أن يكون من حدث به ثقة في دينه معروفا بالصدق في حديثه عاقلا لما يحدث به عالما بما يحيل معاني الحديث من اللفظ وأن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمع لا يحدث به على المعنى لأنه إذا حدث على المعنى وهو غير عالم بما يحيل به معناه لم يدر لعله يحيل الحلال إلى حرام وإذا أداه بحروفه فلم يبق وجه يخاف فيه إحالته الحديث، حافظا إن حدث به من حفظه، حافظا لكتابه إذا حدث من كتابه، إذا شرك أهل الحفظ في حديث وافق حديثهم، بريا من أن يكون مدلسا، يحدث عن من لقي ما لم يسمع منه، ويحدث عن النبي ما يحدث الثقات خلافه عن النبي، ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه حتى ينتهي بالحديث موصولاً إلى النبي أو إلى من انتهى به إليه دونه. لأن كل واحد منهم مثبت لمن حدثه ومثبت على من حدث عنه ([3]).
تلخيص ابن صلاح للتعريف:
وقد لخص ابن صلاح تعريف الصحيح فقال:
الحديث الصحيح: "ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله ولا يكون شاذا ولا معللا" ([4]).
مراده من قوله: " أصح شيء في الباب ".
يقول الإمام الترمذي في كثير من المواضع في سننه: "هذا أصح شيء في الباب" فليس المراد منه صحة الحديث كما توهم بعض الناس.
قال النووي: لا يلزم من هذه العبارة صحة الحديث، فإنهم يقولون هذا أصح ما جاء في الباب، وإن كان ضعيفا ومرادهم أرجحه أو أقله ضعفا ([5]).
الحديث الحسن:
" الحسن" لم يكن مشهورا قبل الإمام الترمذي كنوع خاص من أنواع الحديث.
قال ابن صلاح: كتاب أبى عيسى الترمذي أصل في معرفة الحديث الحسن وهو الذي نوه بإسمه وأكثر من ذكره في جامعه ويوجد في متفرقات من كلام بعض مشايخه والطبقة التي قبله كأحمد بن حنبل والبخاري وغيرهما ([6]).
تعريف الترمذي للحديث الحسن:
عرفه الإمام في كتاب العلل، فقال:
وما ذكرنا في هذا الكتاب " حديث حسن " فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ولا يكون الحديث شاذا ويروى من غير وجه نحو ذاك، فهو عندنا حديث حسن" ([7]).
شرح التعريف:
قوله: " كل حديث يروى" بمنزلة الجنس، يشمل جميع أنواع الحديث.
قوله: " لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب" خرج به حديث المتهم بالكذب. وعدل الإمام عن لفظ " الثقة" إلى قوله "غير متهم بالكذب" مشعرا بأنه قاصر عن درجة الصحيح لكي يميز الحسن من الصحيح ([8]).
قوله: "لا يكون الحديث شاذا" أراد بالشاذ ما قاله الإمام الشافعي، وهو أن يروي الثقات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلافه" ([9]).
قوله: "أن يروى من وجه آخر نحوه"لا يشترط فيه الفظ بل يكفى أن يروى معناه.
قال ابن رجب: "أن يروى معناه من غير وجه لا نفس لفظه([10]).
فإذا كان الحديث لا يكون شاذا وورد مثله ونحوه من وجه آخر ترجح أن راويه ضبطه وحسن الظن فيه أنه حفظه وأداه كما سمعه ولذلك سمى الحديث حسنا.
تعريف الحسن لذاته والحسن لغيره:
ثم إن الإمام الترمذي عرف "الحسن لغيره" وأغفل "الحسن لذاته" وتفصيل المقام أن الحسن عند المحدثين على قسمين:
الأول "حسن لذاته" والثاني: "حسن لغيره".
تعريف الحسن لذاته:
عرفه ابن الصلاح فقال: أن يكون راويه من المشهورين بالصدق والأمانة غير أنه لم يبلغ درجة رجال الصحيح لكونه يقصر عنهم في الحفظ والإتقان وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يُعّد ما يتفرد به من حديثه منكرا ويعتبر في كل هذا مع سلامة الحديث من أن يكون شاذا ومنكرا سلامته من أن يكون معللا" ([11]).
فإذا قال المحدثون "هذا حديث حسن" كان مرادهم "الحسن لذاته". فالحسن هذا إذن مثل "الصحيح" إلا أنه قد خف ضبط راويه عن راوي الصحيح.
قال ابن حجر بعد تعريف الصحيح: فإن خف الضبط فهو الحسن لذاته" ([12]).
تعريف الحسن لغيره:
هو الحديث الضعيف الذي تعددت طرقه، وبكثرت طرقه يجبر وهنه وضعفه، وهو ما يطلق عليه الترمذي "حسن".
ونزل ابن الصلاح كلام الترمذي عليه فقال:
"الحسن الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور لم تتحقق أهليته غير أنه ليس مغفلا كثير الخطاء فيما يرويه ولا متهم بالكذب....وكلام الترمذي على هذا القسم يتنزل" ([13]).
وقد يرد عليه:
1. أن عبارة الترمذي أعم من قوله مستور؟ فالجواب: أن ابن الصلاح ذكر المستور للتمثيل لا للتقييد، يعنى نحو المستور ([14]).
2. أنه قيد المستور بكونه ليس مغفلا كثير الخطاء وهذا لا يدل عليه كلام الترمذي([15]).
والجواب عن هذا بوجهين:
الوجه الأول: أنه يؤخذ هذا القيد من كلام الترمذي حيث ذكر في العلل أن من كان متهما في الحديث بالكذب أو كان مغفلا يخطى الكثير فالذي اختاره أكثر أهل الحديث من الأئمة أن لا يشتغل بالرواية عنه ([16]).
الوجه الثاني: أن ابن الصلاح قيد بذلك لأنه أراد أن اجتماع الخستين الستر والتغفيل قصور لا يصلح معه جابر كالإتهام بالكذب" ([17]).
3. قال البنوري:"ما قاله ابن الصلاح غير صالح حيث يضطر أن يدخل في الحسن عند الترمذي ما كان في إسناده مستور الحال، ومنشاء ما زعمه عدم ذكر الترمذي في الحسن شرط اتقان الرواة وغيره، وهذا الزعم غير صحيح لأن ذلك مراد عند الكل، ولكون معرفة هذا الشرط وإشتهاره لم يصرح به الترمذي لا أنه صرح بعدم هذا" ([18]).
والجواب: أن الذي يشترط فيه إتقان الرواة هو الحسن لذاته، أما الذي عرفه الترمذي فيشترط فيه التعدد ليكافي عدم اشتراط الإتقان.
خلاصة الكلام:
حاصل الكلام: أن الإمام الترمذي تفرد بهذا التعريف ولذا أضافه لنفسه فقال: " وما ذكرنا في هذا الكتاب "حديث حسن" فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا"([19]) فإذا أطلق في الحكم على الحديث "هذا حديث حسن" فمراده الحديث الحسن لغيره، وهو في الأصل حديث ضعيف فأحيانا يخرج الحديث ويقول فلان ضعيف ثم يقول "هذا حديث حسن" فإنما حسنه لكونه يتعاضد بتعدد طرقه، ويميز هذا عن " الحسن لذاته" بقوله"حسن غريب". والمحدثون يطلقون القول على الحسن لذاته بقولهم"حسن" ولا يقيدون بشئ.
حكم حديث الحسن لذاته والحسن لغيره:
الحسن لذاته:
هذا الحديث مقبول للإحتجاج والعمل به عند جميع الفقهاء ومعظم المحدثين والأصوليين. وذلك أنه إذا ترجح الصدق في خبر الواحد وجب العمل به، والحسن قد ترجح صدقه على كذبه، فوجب أن يكون مثل الصحيح في الاحتجاج به والعمل بموجبه ولذلك جعله بعضهم مندرجا في أنواع الصحيح لاندراجه في أنواع ما يحتج به.
قال ابن الصلاح: وهو الظاهر من كلام الحاكم أبى عبدالله الحافظ في تصرفاته، وإليه يومي في تسمية كتاب الترمذي بالجامع الصحيح وأطلق الخطيب أبو بكر أيضا عليه اسم الصحيح" ([20]).
الحسن لغيره:
هذا وإن كان في الأصل ضعيفا لكنه تدرج إلى درجة الحسن بوروده من طريق آخر فتحصل بالمجموع قوة تصلح للاحتجاج وهذا الاحتجاج بالمجموع لا بإنفراد حديث حديث.
الحديث الغريب:
تعريف الإمام الترمذي للحديث الغريب:
قال: "وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث غريب فإن أهل الحديث يستغربون الحديث لمعان:
رب حديث يكون غريبا لا يروى إلا من وجه واحد
ورب حديث إنما يستغرب لزيادة تكون في الحديث
ورب حديث يروى من أوجه كثيرة وإنما يستغرب لحال الإسناد" ([21]).
تعريف المحدثين للحديث الغريب:
الإمام الترمذي جرى في هذا التعريف على اصطلاح المحدثين ولذا قال"فإن أهل الحديث يستغربون". وهكذا عرفه الآخرون، قال ابن صلاح: "الحديث الذي يتفرد به بعض الرواة يوصف بالغريب، وكذلك الحديث الذي يتفرد فيه بعضهم بأمر لا يذكره فيه غيره إما في متنه وإما في إسناده" ([22]).
أقسام الغريب:
يحصل من تعريف ابن صلاح للحديث الغريب ثلاثة أقسام:
الأول: " غريب متنا وإسنادا" لأن قوله: " الحديث الذي يتفرد به بعض الرواة يوصف بالغريب" أعم من أن يكون الإنفراد بالسند والمتن جميعا أو بالسند، ويدخل فيه المعنيين الأولين ذكرهما الترمذي، ويحصل من قوله " وكذلك الحديث الذي يتفرد فيه بعضهم بأمر لا يذكره فيه غيره إما في متنه وإما في إسناده " قسمان، " غريب إسنادا لا متنا" وهو الثاني، و" غريب متنا لا إسنادا " وهو الثالث. ويدخل في الثاني المعنى الثالث الذي ذكره الترمذي لأن مراده بقوله " يستغرب لحال الإسناد" التفرد بالإسناد. ويطلق الحافظ ابن حجر على الأول " الفرد المطلق" وعلى الثاني "الفرد النسبي" لأن التفرد حصل فيه بالنسبة إلى شخص معين([23]).
والقسم الثالث ذكره ابن الصلاح في كتابه واختلفوا في وجوده وعدمه وكذا اختلف في صورته.
فقال ابن صلاح: لا يوجد ما هو غريب متنا وليس غريبا إسنادا إلا إذا اشتهر الحديث الفرد عمن تفرد به فرواه عنه عدد كثيرون فإنه يصير غريبا مشهورا، غريب متنا وغير غريب إسنادا لكن بالنظر إلى أحد طرفي الإسناد، فان إسناده متصف بالغرابة في طرفه الأول متصف بالشهرة في طرفه الآخر كحديث "إنما الأعمال بالنيات" وكسائر الغرائب التي اشتملت عليها التصانيف المشهورة" ([24]).
فابن الصلاح قيده بالنسبة لآخر السند فهو في الحقيقة غريب متنا وإسنادا لأن الرواة تفردوا بالمتن في الابتداء وطرأت الشهرة بعد ذلك.
مثال القسم الأول:
مثل الترمذي له بمثالين وقال الحافظ ابن رجب ([25]) وهما في الحقيقة نوعان:
الأول: أن يكون ذلك الإسناد لا يروى به إلا ذلك الحديث أيضا.
مثاله:
حديث حماد بن سلمة عن أبي العشراء عن أبيه قال: قلت يا رسول الله أما تكون الزكاة إلا في الحلق واللبة؟ فقال لو طعنت في فخذها أجزا عنك".
قال الترمذي: فهذا حديث تفرد به حماد بن سلمة عن أبى العشراء ولا يعرف لأبى العشراء عن أبيه إلا هذا الحديث وإن كان الحديث مشهورا عند أهل العلم وإنما اشتهر من حديث حماد بن سلمة لا يعرف إلا من حديثه" ([26]).
وقد خرج الترمذي في كتاب الصيد "ما جاء في الذكاة في الحلق واللبة" هذا الحديث وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة ولا نعرف لأبى العشراء عن أبيه إلا هذا الحديث" ([27]).
قال ابن رجب: ولم يقل أنه حسن لما ذكر ههنا أن شرطه في الحسن أن يروى نحوه من غير وجه وهذا ليس كذلك فإنه لم يرو في الزكاة في غير الحلق واللبة إلا في حال الضرورة غيره ([28]).
الثاني: أن يكون الإسناد مشهورا يروى به أحاديث كثيرة لكن لم تصح رواية هذا المتن إلا بهذا الإسناد.
مثاله:
حديث عبدالله بن دينارعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الولاء.
قال الترمذي: لا يعرف إلا من حديث عبدالله بن ينار رواه عنه عبيدالله بن عمر وشعبة وسفيان الثورى ومالك بن أنس وابن عيينة وغير واحد من الأئمة وروى يحي بن سليم هذا الحديث عن عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر فوهم فيه يحي بن سليم" ([29]). ورواه في" كراهية بيع الولاء وهبته" عن محمد بن بشار عن طريق سفيان وشعبة عن عبدالله بن دينار، وقال: هذا حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث عبدالله بن دينار عن ابن عمر" ([30]).
فهذا الحديث لم يصح إلا من هذا الوجه عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر.
وقال ابن رجب: هو معدود من غرائب الصحيح فإن الشيخين خرجاه ([31]).
مثال القسم الثاني:
أي الغريب من جهة الإسناد، والمتن نفسه مشهور فيتفرد الراوي بروايته عن شخص لم يرو الأخرون عنه هذا الحديث. وهذا أيضا على قسمين:
الأول: أن يكون الحديث معروفا من رواية صحابي أو أكثر من طرق معروفة ثم يروى عن صحابي آخر من وجه يستغرب عنه بحيث لا يعرف حديثه إلا من ذلك الوجه.
مثاله: حديث أبى كريب عن أبى أسامة عن بريد بن عبدالله ابن أبى بردة عن جده عن أبيه أبى موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معي واحد".
قال أبو عيسى: " هذا حديث غريب من هذا الوجه من قبل إسناده وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -" ([32]).
فهذا الحديث غريب سندا عن أبى كريب ولا غرابة في المتن، لأن المتن معروف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعددة وقد خرجاه في الصحيحين من حديث أبى هريرة ([33]) ومن حديث ابن عمر([34]) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأما حديث أبى موسى هذا فخرجه مسلم عن أبى كريب ([35]) وقد إستغربه غير واحد من هذا الوجه وذكروا أن أبا كريب تفرد به منهم البخاري وأبو زرعة، وذكر لأبى زرعة من رواه عن أبى أسامة غير أبى كريب؟ فكأنه أشار إلى أنهم أخذوه منه ([36]).
الثاني: أن يكون الحديث يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معروفا من رواية صحابي عنه من طريق أو من طرق ثم يروى عن ذلك الصحابي من وجه آخر يستغرب من ذلك الوجه خاصة ([37]).
مثاله:
ذكر الترمذي مثالا له من حديث الدارمى قال: أخبرنا مروان عن معاوية بن سلام عن يحي بن أبى كثير عن أبى سعيد مولى المهدي عن حمزة بن سفينة عن السائب سمع عائشة عن النبي صلى الله عليه من تبع جنازة فله قيراط....
قال أبو عيسى: وهذا حديث قد روى من غير وجه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما يستغرب هذا الحديث لحال إسناده لرواية السائب عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ([38]).
الغريب من حيث القبول والرد:
الغرابة وتفرد الراوى بالحديث لا تنفى الصحة إذا توفرت فيه شروط الصحة وإذا لم يستوف هذه الشروط فهو غير صحيح وعلى هذا ينقسم الغريب إلى ثلاثة أقسام:
1. الغريب الصحيح: وهو ما توفرت فيه شروط الصحة.
مثاله: حديث عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " إنما الأعمال بالنيات".
وقد خرجه الترمذي: في الجهاد "فيمن يقاتل رياء" ([39]).
عن محمد بن المثنى عن عبد الوهاب الثقفي عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص الليثي عن عمر بن الخطاب.
وقال: هذا حديث حسن صحيح... ولا نعرفه إلا من حديث يحي بن سعيد.
فإنه لم يصح إلا من حديث يحي بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر([40]).
2. الغريب الحسن: الذي توفرت فيه شروط الصحة مع خف ضبط راويه. مثاله: " باب ما جاء في السيوف وحليتها" ([41]).
روى عن محمد بن صدران أبو جعفر البصري عن طالب بن حجير عن هود بن عبد الله بن سعد عن جده مزيدة قال دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة قال طالب فسألته عن الفضة فقال كانت قبيعة السيف فضة.
قال أبو عيسى: وفي الباب عن أنس و"هذا حديث حسن غريب".
3. الغريب الضعيف: هو ما لم يجمع صفة الصحيح أو الحسن وذلك هو الغالب على الغرائب ([42]).
والعلماء نهوا عن الإستكثار من روايتها قال أحمد: "شر الحديث الغرائب التي لا يعمل بها ولا يعتمد عليها" ([43]).
وقال الإمام أبو يوسف: "من اتبع غريب الحديث كذب" ([44]).
مثاله: "باب ما جاء في الجلوس قبل أن توضع" ([45]).
روى عن محمد بن بشار عن صفوان بن عيسى عن بشر بن رافع عن عبدالله بن سليمان بن جنادة بن أبي أمية عن أبيه عن جده عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اتبع الجنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد فعرض له حبر فقال هكذا نصنع يا محمد فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال خالفوهم.
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب وبشر بن رافع ليس بالقوي في الحديث.
الاصطلاحات المركبة في سنن الترمذي:
"صحيح غريب" و"حسن صحيح" و"حسن غريب" و "حسن صحيح غريب".
صحيح غريب:
لا إشكال في معنى هذا الكلام لأن الصحيح لا يشترط فيه تعدد الطرق والغرابة لا تنفي الصحة، فقصد الإمام من هذه العبارة إفادة هاتين الحيثيتين في الحديث "الصحة" و "الغرابة".
حسن غريب:
فسر الإمام "الحسن" بتعدد الإسناد والمراد منها عند المحدثين " الحسن لغيره" وما تعرض لتعريف " الحسن لذاته" فالحديث الصحيح إذا خف ضبط راويه يكون حسنا وقد يروى من وجه واحد والإمام يعبر عن هذا القسم بقوله"حسن غريب".
فالحاصل: أن التعدد شرط حيث يفرد " الحسن" في وصف الحديث فإذا قيد بالغرابة علم أن التعدد غير ملاحظ فيه مع بلوغ الحديث بنفسه رتبة الحسن.
حسن صحيح:
كثرت الآراء في تحليل هذه العبارة وأشكل أمرها كثيرا، لأن الحسن قاصر عن درجة الصحيح فكيف يجمع بينهما في حديث واحد.
فأذكر المذهب المختار فيه حذرا من الإطالة.
قال ابن صلاح: إن ذلك راجع إلى الإسناد فإذا روى الحديث الواحد بإسنادين أحدهما إسناد حسن والآخر إسناد صحيح استقام أن يقال فيه أنه حديث حسن صحيح، أي أنه حسن بالنسبة إلى إسناد صحيح بالنسبة إلى إسناد آخر" ([46]).
وعمم ابن دقيق العيد الحسن من الصحيح فقال:
والذي أقول: أن الحسن لا يشترط فيه قيد القصور عن الصحيح وإنما يجيئه القصور حيث إنفرد الحسن يعنى إذا أقتصر
على قوله" حسن " فالقصور يأتيه من قيد الإقتصار لا من حيث حقيقته وذاته، أما إذا يرتفع إلى درجة الصحة فالحسن حاصل لا محالة تبعا للصحة...
حاصل كلامه:
أنه يجتمع في الراوي صفة الدنيا كالصدق والصفة العلياء كالحفظ والإتقان، فإذا وجدت الدرجة العلياء لم يناف ذلك وجود الدنيا، فيصح أن يقال في هذا: إنه حسن بإعتبار وجود صفة الدنيا وهى الصدق مثلا، صحيح بإعتبار الصفة العلياء وهى الحفظ والإتقان" ([47]).
فيلزم من هذا أن كل صحيح عنده حسن وليس كل حسن صحيحا لكنه مخالف لاصطلاحات الترمذي لأنه أشترط في الحسن أن يروى نحوه من وجه آخر ولم يشترط ذلك في الصحيح ويظهر من صنيع الإمام أنه يميز بين الحسن والصحيح حيث إستعملاهما مفردين" ([48]).
قال ابن حجر في تحقيق قوله "حسن صحيح ":
"فإن جمعا في وصف حديث واحد كقول الترمذي وغيره "حسن صحيح ".
1. فللتردد الحاصل من المجتهد في الناقل هل إجتمعت فيه شروط الصحة أو قصر عنها وهذا حيث يحصل منه التفرد بتلك الرواية. ومحصل الجواب أن تردد أئمة الحديث في حال ناقله إقتضى للمجتهد ألا يصفه بأحد الوصفين فيقال فيه "حسن" بإعتبار وصفه عند قوم، "صحيح" بإعتبار وصفه عند قوم وغاية ما فيه أنه حذف حرف التردد (أو) لأن حقه أن يقول حسن أو صحيح.
الملاحظة: كلامه هذا يصدق على قول الترمذي"حسن صحيح غريب" وسيأتي بيانه.
2. وإلا أي إذا لم يحصل التفرد فإطلاق الوصفين معا على الحديث يكون بإعتبار إسنادين أحدهما "صحيح" والآخر"حسن"، وعلى هذا فما قيل فيه "حسن صحيح" فوق ما قيل فيه "صحيح" فقط إذا كان فردا لأن كثرة الطرق تقوى" ([49]).
وهذا القول الثاني موافق لما قال ابن الصلاح وهو المذهب المختار.
مثال لقول الترمذي " حسن صحيح":
حديث: " لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها كلها فاقتلوا منها كل اسود بهيم" ([50]).
رواه عن أحمد بن منيع عن هشيم عن منصور بن زاذان ويونس بن عبيد عن الحسن عن عبد الله بن مغفل قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.....
قال: وفي الباب عن بن عمر وجابر وأبي رافع وأبي أيوب
قال أبو عيسى: حديث عبد الله بن مغفل "حديث حسن صحيح"
ثم روى في الباب الذي يليه: " من أمسك كلبا ما ينقص من أجره ".
عن عبدالله بن مغفل، قال:
حدثنا عبيد بن أسباط بن محمد القرشي حدثنا أبي عن الأعمش عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن عبد الله بن مغفل قال: إني لممن يرفع أغصان الشجرة عن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب فقال: لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل اسود بهيم وما من أهل بيت يرتبطون كلبا إلا نقص من عملهم كل يوم قيراط إلا كلب صيد أو كلب حرث أو كلب غنم.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن الحسن عن عبد الله بن مغفل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -".
وفيه إسماعيل بن مسلم ضعيف، وحسن حديثه لتعدد طرقه، وجمع الحسن والصحة فى الأول لأنه صحيح بنفسه والثاني حسن بتعدد طرقه.
المثال الثاني: " باب من العقيقة " ([51]).
حديث: "الغلام مرتهن بعقيقته يذبح عنه يوم السابع ويسمى ويحلق رأسه". رواه الترمذي عن علي بن حجر عن علي بن مسهر عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن سمرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. حدثنا الحسن بن علي الخلال حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه.
قال أبو عيسى: "هذا حديث حسن صحيح"
فالإسناد الأول فيه إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف وحسن حديثه لتعدد طرقه ورجال الإسناد الثاني ثقات فالحديث صحيح. فحصل به أن الحديث حسن بالأول صحيح بالإسناد الثاني.
قوله: "حسن صحيح غريب":
يعبر الإمام الترمذي هذا النوع بعبارات تالية:
- هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث فلان.
- حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
- قد يجمع بينهما فيقول: "حسن صحيح غريب من هذا الوجه من حديث فلان".
مراده منها:
- أن الحديث لا يعرف من غيره على هذا اللفظ.
- أو لا يعرف صحيحا إلا من هذا الوجه.
- أو كان الحديث صحيحا ولا يعرف إلا من فلان
فالغرابة إما بالنظر إلى المتن أو بالنظر إلى الإسناد أو بالنظر إلى الراوي أو بالنظر إلى الصحة.
مثاله: "حديث ابن عمر في بدء الأذان" ([52]).
رواه الترمذي عن أبى بكر بن النضر بن أبي النضر عن حجاج بن محمد عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر قال: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلوات وليس ينادي بها أحد فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى وقال بعضهم اتخذوا قرنا مثل قرن اليهود قال فقال عمر بن الخطاب أولا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة قال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا بلال قم فناد بالصلاة. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر.
فهذا اللفظ لا يعرف إلا من حديث ابن عمر والحديث أخرجه أحمد عن عبدالرزاق ([53]) والبخاري عن محمود بن غيلان ([54]) ومسلم عن إسحاق بن إبراهيم ([55]) والنسائي عن محمد بن إسماعيل([56]) كلهم عن طريق ابن جريج عن نافع عن ابن عمر، فالحديث "حسن" لتعدد أسانيده "صحيح" لصحته وعلو رجاله و"غريب" من حديث ابن عمر بهذا اللفظ ولأنه تفرد به ابن جريج عن نافع.
المثال الثاني: حديث أبي هريرة في"الاضطجاع بعد ركعتي الفجر" ([57]).
قال حدثنا بشر بن معاذ العقدي حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فَلْيَضْطَجِعْ على يمينه وفي الباب عن عائشة.
قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة "حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه" وقد روى عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى ركعتي الفجر في بيته اضطجع على يمينه". فالحديث "صحيح" أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها ([58]) بأسانيد متعددة، وهذا الحديث الذي أخرجه الترمذي "حسن" بإسناده، والغرابة فيه من قبل هذا الإسناد فقال: "غريب من هذا الوجه".
قال ابن رجب: وعلى هذا فلا يشكل قوله"صحيح حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه" لأن مراده أن هذا اللفظ لا يعرف إلا من هذا الوجه، لكن لمعناه شواهد من غير هذا الوجه، وإن كانت شواهد بغير لفظه" ([59]).
وإن حصل التفرد في رواية فيحمل قوله على التردد كما قال ابن حجر:
"أن تردد أئمة الحديث في حال ناقله إقتضى للمجتهد ألا يصفه بأحد الوصفين فيقال فيه "حسن" باعتبار وصفه عند قوم، "صحيح" باعتبار وصفه عند قوم وغاية ما فيه أنه حذف حرف التردد (أو) لأن حقه أن يقول حسن أو صحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــ
([1]) (قواعد التحديث 104) طبع دار الكتب العلمية بيروت، ط. 1.
([2]) شرح العلل(1/342)
([3]) الرسالة(ص370) طبع مصطفى البابي الحلبي، بتحقيق أحمد محمد شاكر.
([4]) تدريب الراوي(62) علوم الحديث(مقدمة ابن صلاح) مع التقييد والإيضاح(ص20) طبع: دار العلوم حقانية بدون.
([5]) تدريب الراوي(8788)
([6]) علوم الحديث (5152)
([7]) كتاب العلل(2/340)
([8]) تدريب الراوي(1/156)
([9]) شرح العلل(1/384)
([10]) شرح العلل(1/386)
([11]) علوم الحديث(47)
([12]) نزهة النظر(40) طبع: فاروقي كتب خانة ملتان باكستان.
([13]) علوم الحديث(46)
([14]) علوم الحديث(6364)
([15]) شرح العلل (1/287)
([16]) شرح العلل (1/387)
([17]) علوم الحديث(37)
([18]) معارف السنن(1/87) ايج ايم سعيد كمبنى كراتشى 1404هـ
([19]) كتاب العلل(2/238)
([20]) علوم الحديث(60)
([21]) كتاب العلل(2/340)
([22]) علوم الحديث(270) تدريب الراوي(2/181)
([23]) نزهة النظر(29)
([24]) علوم الحديث(273274)
([25]) شرح العلل (1/413)
([26]) كتاب العلل(2/238)
([27]) سنن الترمذي(1/273)
([28]) شرح العلل (1/414)
([29]) كتاب العلل(2/238)
([30]) سنن الترمذي(1/233)
([31]) شرح العلل (1/415)
([32]) كتاب العلل(2/238)
([33]) البخاري: عن إسماعيل عن مالك عن أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة(5/2062).
([34]) البخاري: عن محمد بن سلام عن عبدة عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر (5/2061).
مسلم: عن زهير بن حرب عن طريق نافع عن ابن عمر(3/1631)
([35]) عن أبى كريب محمد بن العلاء عن أبى أسامة عن بريد عن جده عن أبى موسى، صحيح مسلم(3/1632).
([36]) شرح العلل(1/440-441)
([37]) شرح العلل (1/446)
([38]) كتاب العلل(2/239)
([39]) سنن الترمذي(1/294)
([40]) ابن رجب (1/416)
([41]) سنن الترمذي(1/298)
([42]) علوم الحديث(271) تدريب الراوي(1/179)
([43]) الكفاية(141) طبع: دائرة المعارف العثمانية هند، 1357هج
([44]) شرح العلل 1/407)
([45]) سنن الترمذي(1/98)
([46]) علوم الحديث(59)
([47]) قوت المغتذي على هامش سنن الترمذي(1/8).
([48]) التقييد والإيضاح للعراقي(61) طبع: دار العلوم حقانية باكستان، بدون.
([49]) نزهة النظر(4244)
([50]) سنن الترمذي(1/274)
([51]) سنن الترمذي(1/278)
([52]) سنن الترمذي(1/48)
([53]) مسند أحمد(2/148) طبع: المكتب الإسلامي، بيروت ط، 1، 1389هـ.
([54]) صحيح البخاري(1/219)
([55]) صحيح المسلم(1/285)
([56]) سنن النسائي(2/2) طبع: دار البشائر، بيروت، 2، 1406هـ.
([57]) سنن الترمذي(1/96)
([58]) البخاري(1/225) مسلم(1/508)
([59]) شرح العلل(1/386)
إن الإمام الترمذي قسم الحديث من حيث القبول والرد إلى ثلاثة أقسام: "صحيح" و "حسن" و "غريب". وهذا التقسيم لم يكن مشهورا من قبل.
قال ابن تيمية: أول من عرف أنه قسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف أبو عيسى الترمذي ولم تعرف هذه القسمة عن أحد قبله[1].
وقال ابن رجب: اعلم أن الترمذي قسم في كتابه هذا الحديث إلى صحيح وحسن وغريب وقد يجمع هذه الأوصاف الثلاثة في حديث واحد وقد يجمع منها وصفين في الحديث وقد يفرد أحدها في بعض الأحاديث([2]).
أنواع الحديث في السنن:
الإمام الترمذي لا يكتفي ببيان نوع الحديث من حيثية واحدة بل يمزج هذه الاصطلاحات فتتكون من هذه الثلاثة العبارات التالية:
"صحيح غريب" "حسن غريب" "حسن صحيح" "حسن صحيح غريب".
فأنواع الحديث صار سبعة في كتابه:
"صحيح" و "حسن" و "غريب" و "صحيح غريب" و "حسن غريب" و"حسن صحيح" و"حسن صحيح غريب". والإمام الترمذي كان في عصر ازدهار العلم وعصر الأئمة يعلم كل واحد هذه الاصطلاحات والأنواع ولذا ما فسر الأنواع هذه لكنه فسر بعض مصطلحاته لأنه تفرد به.
فأولا أقدم تعريف الأنواع الثلاثة "صحيح" و "حسن" و "غريب" ثم نقدم بيان مصطلحات الإمام.
تعريف الحديث الصحيح:
أقدم تحديد للحديث الصحيح تحديد الإمام الشافعي.
قال في الرسالة: ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورا.
منها: أن يكون من حدث به ثقة في دينه معروفا بالصدق في حديثه عاقلا لما يحدث به عالما بما يحيل معاني الحديث من اللفظ وأن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمع لا يحدث به على المعنى لأنه إذا حدث على المعنى وهو غير عالم بما يحيل به معناه لم يدر لعله يحيل الحلال إلى حرام وإذا أداه بحروفه فلم يبق وجه يخاف فيه إحالته الحديث، حافظا إن حدث به من حفظه، حافظا لكتابه إذا حدث من كتابه، إذا شرك أهل الحفظ في حديث وافق حديثهم، بريا من أن يكون مدلسا، يحدث عن من لقي ما لم يسمع منه، ويحدث عن النبي ما يحدث الثقات خلافه عن النبي، ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه حتى ينتهي بالحديث موصولاً إلى النبي أو إلى من انتهى به إليه دونه. لأن كل واحد منهم مثبت لمن حدثه ومثبت على من حدث عنه ([3]).
تلخيص ابن صلاح للتعريف:
وقد لخص ابن صلاح تعريف الصحيح فقال:
الحديث الصحيح: "ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله ولا يكون شاذا ولا معللا" ([4]).
مراده من قوله: " أصح شيء في الباب ".
يقول الإمام الترمذي في كثير من المواضع في سننه: "هذا أصح شيء في الباب" فليس المراد منه صحة الحديث كما توهم بعض الناس.
قال النووي: لا يلزم من هذه العبارة صحة الحديث، فإنهم يقولون هذا أصح ما جاء في الباب، وإن كان ضعيفا ومرادهم أرجحه أو أقله ضعفا ([5]).
الحديث الحسن:
" الحسن" لم يكن مشهورا قبل الإمام الترمذي كنوع خاص من أنواع الحديث.
قال ابن صلاح: كتاب أبى عيسى الترمذي أصل في معرفة الحديث الحسن وهو الذي نوه بإسمه وأكثر من ذكره في جامعه ويوجد في متفرقات من كلام بعض مشايخه والطبقة التي قبله كأحمد بن حنبل والبخاري وغيرهما ([6]).
تعريف الترمذي للحديث الحسن:
عرفه الإمام في كتاب العلل، فقال:
وما ذكرنا في هذا الكتاب " حديث حسن " فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ولا يكون الحديث شاذا ويروى من غير وجه نحو ذاك، فهو عندنا حديث حسن" ([7]).
شرح التعريف:
قوله: " كل حديث يروى" بمنزلة الجنس، يشمل جميع أنواع الحديث.
قوله: " لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب" خرج به حديث المتهم بالكذب. وعدل الإمام عن لفظ " الثقة" إلى قوله "غير متهم بالكذب" مشعرا بأنه قاصر عن درجة الصحيح لكي يميز الحسن من الصحيح ([8]).
قوله: "لا يكون الحديث شاذا" أراد بالشاذ ما قاله الإمام الشافعي، وهو أن يروي الثقات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلافه" ([9]).
قوله: "أن يروى من وجه آخر نحوه"لا يشترط فيه الفظ بل يكفى أن يروى معناه.
قال ابن رجب: "أن يروى معناه من غير وجه لا نفس لفظه([10]).
فإذا كان الحديث لا يكون شاذا وورد مثله ونحوه من وجه آخر ترجح أن راويه ضبطه وحسن الظن فيه أنه حفظه وأداه كما سمعه ولذلك سمى الحديث حسنا.
تعريف الحسن لذاته والحسن لغيره:
ثم إن الإمام الترمذي عرف "الحسن لغيره" وأغفل "الحسن لذاته" وتفصيل المقام أن الحسن عند المحدثين على قسمين:
الأول "حسن لذاته" والثاني: "حسن لغيره".
تعريف الحسن لذاته:
عرفه ابن الصلاح فقال: أن يكون راويه من المشهورين بالصدق والأمانة غير أنه لم يبلغ درجة رجال الصحيح لكونه يقصر عنهم في الحفظ والإتقان وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يُعّد ما يتفرد به من حديثه منكرا ويعتبر في كل هذا مع سلامة الحديث من أن يكون شاذا ومنكرا سلامته من أن يكون معللا" ([11]).
فإذا قال المحدثون "هذا حديث حسن" كان مرادهم "الحسن لذاته". فالحسن هذا إذن مثل "الصحيح" إلا أنه قد خف ضبط راويه عن راوي الصحيح.
قال ابن حجر بعد تعريف الصحيح: فإن خف الضبط فهو الحسن لذاته" ([12]).
تعريف الحسن لغيره:
هو الحديث الضعيف الذي تعددت طرقه، وبكثرت طرقه يجبر وهنه وضعفه، وهو ما يطلق عليه الترمذي "حسن".
ونزل ابن الصلاح كلام الترمذي عليه فقال:
"الحسن الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور لم تتحقق أهليته غير أنه ليس مغفلا كثير الخطاء فيما يرويه ولا متهم بالكذب....وكلام الترمذي على هذا القسم يتنزل" ([13]).
وقد يرد عليه:
1. أن عبارة الترمذي أعم من قوله مستور؟ فالجواب: أن ابن الصلاح ذكر المستور للتمثيل لا للتقييد، يعنى نحو المستور ([14]).
2. أنه قيد المستور بكونه ليس مغفلا كثير الخطاء وهذا لا يدل عليه كلام الترمذي([15]).
والجواب عن هذا بوجهين:
الوجه الأول: أنه يؤخذ هذا القيد من كلام الترمذي حيث ذكر في العلل أن من كان متهما في الحديث بالكذب أو كان مغفلا يخطى الكثير فالذي اختاره أكثر أهل الحديث من الأئمة أن لا يشتغل بالرواية عنه ([16]).
الوجه الثاني: أن ابن الصلاح قيد بذلك لأنه أراد أن اجتماع الخستين الستر والتغفيل قصور لا يصلح معه جابر كالإتهام بالكذب" ([17]).
3. قال البنوري:"ما قاله ابن الصلاح غير صالح حيث يضطر أن يدخل في الحسن عند الترمذي ما كان في إسناده مستور الحال، ومنشاء ما زعمه عدم ذكر الترمذي في الحسن شرط اتقان الرواة وغيره، وهذا الزعم غير صحيح لأن ذلك مراد عند الكل، ولكون معرفة هذا الشرط وإشتهاره لم يصرح به الترمذي لا أنه صرح بعدم هذا" ([18]).
والجواب: أن الذي يشترط فيه إتقان الرواة هو الحسن لذاته، أما الذي عرفه الترمذي فيشترط فيه التعدد ليكافي عدم اشتراط الإتقان.
خلاصة الكلام:
حاصل الكلام: أن الإمام الترمذي تفرد بهذا التعريف ولذا أضافه لنفسه فقال: " وما ذكرنا في هذا الكتاب "حديث حسن" فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا"([19]) فإذا أطلق في الحكم على الحديث "هذا حديث حسن" فمراده الحديث الحسن لغيره، وهو في الأصل حديث ضعيف فأحيانا يخرج الحديث ويقول فلان ضعيف ثم يقول "هذا حديث حسن" فإنما حسنه لكونه يتعاضد بتعدد طرقه، ويميز هذا عن " الحسن لذاته" بقوله"حسن غريب". والمحدثون يطلقون القول على الحسن لذاته بقولهم"حسن" ولا يقيدون بشئ.
حكم حديث الحسن لذاته والحسن لغيره:
الحسن لذاته:
هذا الحديث مقبول للإحتجاج والعمل به عند جميع الفقهاء ومعظم المحدثين والأصوليين. وذلك أنه إذا ترجح الصدق في خبر الواحد وجب العمل به، والحسن قد ترجح صدقه على كذبه، فوجب أن يكون مثل الصحيح في الاحتجاج به والعمل بموجبه ولذلك جعله بعضهم مندرجا في أنواع الصحيح لاندراجه في أنواع ما يحتج به.
قال ابن الصلاح: وهو الظاهر من كلام الحاكم أبى عبدالله الحافظ في تصرفاته، وإليه يومي في تسمية كتاب الترمذي بالجامع الصحيح وأطلق الخطيب أبو بكر أيضا عليه اسم الصحيح" ([20]).
الحسن لغيره:
هذا وإن كان في الأصل ضعيفا لكنه تدرج إلى درجة الحسن بوروده من طريق آخر فتحصل بالمجموع قوة تصلح للاحتجاج وهذا الاحتجاج بالمجموع لا بإنفراد حديث حديث.
الحديث الغريب:
تعريف الإمام الترمذي للحديث الغريب:
قال: "وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث غريب فإن أهل الحديث يستغربون الحديث لمعان:
رب حديث يكون غريبا لا يروى إلا من وجه واحد
ورب حديث إنما يستغرب لزيادة تكون في الحديث
ورب حديث يروى من أوجه كثيرة وإنما يستغرب لحال الإسناد" ([21]).
تعريف المحدثين للحديث الغريب:
الإمام الترمذي جرى في هذا التعريف على اصطلاح المحدثين ولذا قال"فإن أهل الحديث يستغربون". وهكذا عرفه الآخرون، قال ابن صلاح: "الحديث الذي يتفرد به بعض الرواة يوصف بالغريب، وكذلك الحديث الذي يتفرد فيه بعضهم بأمر لا يذكره فيه غيره إما في متنه وإما في إسناده" ([22]).
أقسام الغريب:
يحصل من تعريف ابن صلاح للحديث الغريب ثلاثة أقسام:
الأول: " غريب متنا وإسنادا" لأن قوله: " الحديث الذي يتفرد به بعض الرواة يوصف بالغريب" أعم من أن يكون الإنفراد بالسند والمتن جميعا أو بالسند، ويدخل فيه المعنيين الأولين ذكرهما الترمذي، ويحصل من قوله " وكذلك الحديث الذي يتفرد فيه بعضهم بأمر لا يذكره فيه غيره إما في متنه وإما في إسناده " قسمان، " غريب إسنادا لا متنا" وهو الثاني، و" غريب متنا لا إسنادا " وهو الثالث. ويدخل في الثاني المعنى الثالث الذي ذكره الترمذي لأن مراده بقوله " يستغرب لحال الإسناد" التفرد بالإسناد. ويطلق الحافظ ابن حجر على الأول " الفرد المطلق" وعلى الثاني "الفرد النسبي" لأن التفرد حصل فيه بالنسبة إلى شخص معين([23]).
والقسم الثالث ذكره ابن الصلاح في كتابه واختلفوا في وجوده وعدمه وكذا اختلف في صورته.
فقال ابن صلاح: لا يوجد ما هو غريب متنا وليس غريبا إسنادا إلا إذا اشتهر الحديث الفرد عمن تفرد به فرواه عنه عدد كثيرون فإنه يصير غريبا مشهورا، غريب متنا وغير غريب إسنادا لكن بالنظر إلى أحد طرفي الإسناد، فان إسناده متصف بالغرابة في طرفه الأول متصف بالشهرة في طرفه الآخر كحديث "إنما الأعمال بالنيات" وكسائر الغرائب التي اشتملت عليها التصانيف المشهورة" ([24]).
فابن الصلاح قيده بالنسبة لآخر السند فهو في الحقيقة غريب متنا وإسنادا لأن الرواة تفردوا بالمتن في الابتداء وطرأت الشهرة بعد ذلك.
مثال القسم الأول:
مثل الترمذي له بمثالين وقال الحافظ ابن رجب ([25]) وهما في الحقيقة نوعان:
الأول: أن يكون ذلك الإسناد لا يروى به إلا ذلك الحديث أيضا.
مثاله:
حديث حماد بن سلمة عن أبي العشراء عن أبيه قال: قلت يا رسول الله أما تكون الزكاة إلا في الحلق واللبة؟ فقال لو طعنت في فخذها أجزا عنك".
قال الترمذي: فهذا حديث تفرد به حماد بن سلمة عن أبى العشراء ولا يعرف لأبى العشراء عن أبيه إلا هذا الحديث وإن كان الحديث مشهورا عند أهل العلم وإنما اشتهر من حديث حماد بن سلمة لا يعرف إلا من حديثه" ([26]).
وقد خرج الترمذي في كتاب الصيد "ما جاء في الذكاة في الحلق واللبة" هذا الحديث وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة ولا نعرف لأبى العشراء عن أبيه إلا هذا الحديث" ([27]).
قال ابن رجب: ولم يقل أنه حسن لما ذكر ههنا أن شرطه في الحسن أن يروى نحوه من غير وجه وهذا ليس كذلك فإنه لم يرو في الزكاة في غير الحلق واللبة إلا في حال الضرورة غيره ([28]).
الثاني: أن يكون الإسناد مشهورا يروى به أحاديث كثيرة لكن لم تصح رواية هذا المتن إلا بهذا الإسناد.
مثاله:
حديث عبدالله بن دينارعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الولاء.
قال الترمذي: لا يعرف إلا من حديث عبدالله بن ينار رواه عنه عبيدالله بن عمر وشعبة وسفيان الثورى ومالك بن أنس وابن عيينة وغير واحد من الأئمة وروى يحي بن سليم هذا الحديث عن عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر فوهم فيه يحي بن سليم" ([29]). ورواه في" كراهية بيع الولاء وهبته" عن محمد بن بشار عن طريق سفيان وشعبة عن عبدالله بن دينار، وقال: هذا حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث عبدالله بن دينار عن ابن عمر" ([30]).
فهذا الحديث لم يصح إلا من هذا الوجه عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر.
وقال ابن رجب: هو معدود من غرائب الصحيح فإن الشيخين خرجاه ([31]).
مثال القسم الثاني:
أي الغريب من جهة الإسناد، والمتن نفسه مشهور فيتفرد الراوي بروايته عن شخص لم يرو الأخرون عنه هذا الحديث. وهذا أيضا على قسمين:
الأول: أن يكون الحديث معروفا من رواية صحابي أو أكثر من طرق معروفة ثم يروى عن صحابي آخر من وجه يستغرب عنه بحيث لا يعرف حديثه إلا من ذلك الوجه.
مثاله: حديث أبى كريب عن أبى أسامة عن بريد بن عبدالله ابن أبى بردة عن جده عن أبيه أبى موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معي واحد".
قال أبو عيسى: " هذا حديث غريب من هذا الوجه من قبل إسناده وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -" ([32]).
فهذا الحديث غريب سندا عن أبى كريب ولا غرابة في المتن، لأن المتن معروف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعددة وقد خرجاه في الصحيحين من حديث أبى هريرة ([33]) ومن حديث ابن عمر([34]) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأما حديث أبى موسى هذا فخرجه مسلم عن أبى كريب ([35]) وقد إستغربه غير واحد من هذا الوجه وذكروا أن أبا كريب تفرد به منهم البخاري وأبو زرعة، وذكر لأبى زرعة من رواه عن أبى أسامة غير أبى كريب؟ فكأنه أشار إلى أنهم أخذوه منه ([36]).
الثاني: أن يكون الحديث يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معروفا من رواية صحابي عنه من طريق أو من طرق ثم يروى عن ذلك الصحابي من وجه آخر يستغرب من ذلك الوجه خاصة ([37]).
مثاله:
ذكر الترمذي مثالا له من حديث الدارمى قال: أخبرنا مروان عن معاوية بن سلام عن يحي بن أبى كثير عن أبى سعيد مولى المهدي عن حمزة بن سفينة عن السائب سمع عائشة عن النبي صلى الله عليه من تبع جنازة فله قيراط....
قال أبو عيسى: وهذا حديث قد روى من غير وجه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما يستغرب هذا الحديث لحال إسناده لرواية السائب عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ([38]).
الغريب من حيث القبول والرد:
الغرابة وتفرد الراوى بالحديث لا تنفى الصحة إذا توفرت فيه شروط الصحة وإذا لم يستوف هذه الشروط فهو غير صحيح وعلى هذا ينقسم الغريب إلى ثلاثة أقسام:
1. الغريب الصحيح: وهو ما توفرت فيه شروط الصحة.
مثاله: حديث عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " إنما الأعمال بالنيات".
وقد خرجه الترمذي: في الجهاد "فيمن يقاتل رياء" ([39]).
عن محمد بن المثنى عن عبد الوهاب الثقفي عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص الليثي عن عمر بن الخطاب.
وقال: هذا حديث حسن صحيح... ولا نعرفه إلا من حديث يحي بن سعيد.
فإنه لم يصح إلا من حديث يحي بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر([40]).
2. الغريب الحسن: الذي توفرت فيه شروط الصحة مع خف ضبط راويه. مثاله: " باب ما جاء في السيوف وحليتها" ([41]).
روى عن محمد بن صدران أبو جعفر البصري عن طالب بن حجير عن هود بن عبد الله بن سعد عن جده مزيدة قال دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة قال طالب فسألته عن الفضة فقال كانت قبيعة السيف فضة.
قال أبو عيسى: وفي الباب عن أنس و"هذا حديث حسن غريب".
3. الغريب الضعيف: هو ما لم يجمع صفة الصحيح أو الحسن وذلك هو الغالب على الغرائب ([42]).
والعلماء نهوا عن الإستكثار من روايتها قال أحمد: "شر الحديث الغرائب التي لا يعمل بها ولا يعتمد عليها" ([43]).
وقال الإمام أبو يوسف: "من اتبع غريب الحديث كذب" ([44]).
مثاله: "باب ما جاء في الجلوس قبل أن توضع" ([45]).
روى عن محمد بن بشار عن صفوان بن عيسى عن بشر بن رافع عن عبدالله بن سليمان بن جنادة بن أبي أمية عن أبيه عن جده عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اتبع الجنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد فعرض له حبر فقال هكذا نصنع يا محمد فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال خالفوهم.
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب وبشر بن رافع ليس بالقوي في الحديث.
الاصطلاحات المركبة في سنن الترمذي:
"صحيح غريب" و"حسن صحيح" و"حسن غريب" و "حسن صحيح غريب".
صحيح غريب:
لا إشكال في معنى هذا الكلام لأن الصحيح لا يشترط فيه تعدد الطرق والغرابة لا تنفي الصحة، فقصد الإمام من هذه العبارة إفادة هاتين الحيثيتين في الحديث "الصحة" و "الغرابة".
حسن غريب:
فسر الإمام "الحسن" بتعدد الإسناد والمراد منها عند المحدثين " الحسن لغيره" وما تعرض لتعريف " الحسن لذاته" فالحديث الصحيح إذا خف ضبط راويه يكون حسنا وقد يروى من وجه واحد والإمام يعبر عن هذا القسم بقوله"حسن غريب".
فالحاصل: أن التعدد شرط حيث يفرد " الحسن" في وصف الحديث فإذا قيد بالغرابة علم أن التعدد غير ملاحظ فيه مع بلوغ الحديث بنفسه رتبة الحسن.
حسن صحيح:
كثرت الآراء في تحليل هذه العبارة وأشكل أمرها كثيرا، لأن الحسن قاصر عن درجة الصحيح فكيف يجمع بينهما في حديث واحد.
فأذكر المذهب المختار فيه حذرا من الإطالة.
قال ابن صلاح: إن ذلك راجع إلى الإسناد فإذا روى الحديث الواحد بإسنادين أحدهما إسناد حسن والآخر إسناد صحيح استقام أن يقال فيه أنه حديث حسن صحيح، أي أنه حسن بالنسبة إلى إسناد صحيح بالنسبة إلى إسناد آخر" ([46]).
وعمم ابن دقيق العيد الحسن من الصحيح فقال:
والذي أقول: أن الحسن لا يشترط فيه قيد القصور عن الصحيح وإنما يجيئه القصور حيث إنفرد الحسن يعنى إذا أقتصر
على قوله" حسن " فالقصور يأتيه من قيد الإقتصار لا من حيث حقيقته وذاته، أما إذا يرتفع إلى درجة الصحة فالحسن حاصل لا محالة تبعا للصحة...
حاصل كلامه:
أنه يجتمع في الراوي صفة الدنيا كالصدق والصفة العلياء كالحفظ والإتقان، فإذا وجدت الدرجة العلياء لم يناف ذلك وجود الدنيا، فيصح أن يقال في هذا: إنه حسن بإعتبار وجود صفة الدنيا وهى الصدق مثلا، صحيح بإعتبار الصفة العلياء وهى الحفظ والإتقان" ([47]).
فيلزم من هذا أن كل صحيح عنده حسن وليس كل حسن صحيحا لكنه مخالف لاصطلاحات الترمذي لأنه أشترط في الحسن أن يروى نحوه من وجه آخر ولم يشترط ذلك في الصحيح ويظهر من صنيع الإمام أنه يميز بين الحسن والصحيح حيث إستعملاهما مفردين" ([48]).
قال ابن حجر في تحقيق قوله "حسن صحيح ":
"فإن جمعا في وصف حديث واحد كقول الترمذي وغيره "حسن صحيح ".
1. فللتردد الحاصل من المجتهد في الناقل هل إجتمعت فيه شروط الصحة أو قصر عنها وهذا حيث يحصل منه التفرد بتلك الرواية. ومحصل الجواب أن تردد أئمة الحديث في حال ناقله إقتضى للمجتهد ألا يصفه بأحد الوصفين فيقال فيه "حسن" بإعتبار وصفه عند قوم، "صحيح" بإعتبار وصفه عند قوم وغاية ما فيه أنه حذف حرف التردد (أو) لأن حقه أن يقول حسن أو صحيح.
الملاحظة: كلامه هذا يصدق على قول الترمذي"حسن صحيح غريب" وسيأتي بيانه.
2. وإلا أي إذا لم يحصل التفرد فإطلاق الوصفين معا على الحديث يكون بإعتبار إسنادين أحدهما "صحيح" والآخر"حسن"، وعلى هذا فما قيل فيه "حسن صحيح" فوق ما قيل فيه "صحيح" فقط إذا كان فردا لأن كثرة الطرق تقوى" ([49]).
وهذا القول الثاني موافق لما قال ابن الصلاح وهو المذهب المختار.
مثال لقول الترمذي " حسن صحيح":
حديث: " لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها كلها فاقتلوا منها كل اسود بهيم" ([50]).
رواه عن أحمد بن منيع عن هشيم عن منصور بن زاذان ويونس بن عبيد عن الحسن عن عبد الله بن مغفل قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.....
قال: وفي الباب عن بن عمر وجابر وأبي رافع وأبي أيوب
قال أبو عيسى: حديث عبد الله بن مغفل "حديث حسن صحيح"
ثم روى في الباب الذي يليه: " من أمسك كلبا ما ينقص من أجره ".
عن عبدالله بن مغفل، قال:
حدثنا عبيد بن أسباط بن محمد القرشي حدثنا أبي عن الأعمش عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن عبد الله بن مغفل قال: إني لممن يرفع أغصان الشجرة عن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب فقال: لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل اسود بهيم وما من أهل بيت يرتبطون كلبا إلا نقص من عملهم كل يوم قيراط إلا كلب صيد أو كلب حرث أو كلب غنم.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن الحسن عن عبد الله بن مغفل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -".
وفيه إسماعيل بن مسلم ضعيف، وحسن حديثه لتعدد طرقه، وجمع الحسن والصحة فى الأول لأنه صحيح بنفسه والثاني حسن بتعدد طرقه.
المثال الثاني: " باب من العقيقة " ([51]).
حديث: "الغلام مرتهن بعقيقته يذبح عنه يوم السابع ويسمى ويحلق رأسه". رواه الترمذي عن علي بن حجر عن علي بن مسهر عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن سمرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. حدثنا الحسن بن علي الخلال حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه.
قال أبو عيسى: "هذا حديث حسن صحيح"
فالإسناد الأول فيه إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف وحسن حديثه لتعدد طرقه ورجال الإسناد الثاني ثقات فالحديث صحيح. فحصل به أن الحديث حسن بالأول صحيح بالإسناد الثاني.
قوله: "حسن صحيح غريب":
يعبر الإمام الترمذي هذا النوع بعبارات تالية:
- هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث فلان.
- حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
- قد يجمع بينهما فيقول: "حسن صحيح غريب من هذا الوجه من حديث فلان".
مراده منها:
- أن الحديث لا يعرف من غيره على هذا اللفظ.
- أو لا يعرف صحيحا إلا من هذا الوجه.
- أو كان الحديث صحيحا ولا يعرف إلا من فلان
فالغرابة إما بالنظر إلى المتن أو بالنظر إلى الإسناد أو بالنظر إلى الراوي أو بالنظر إلى الصحة.
مثاله: "حديث ابن عمر في بدء الأذان" ([52]).
رواه الترمذي عن أبى بكر بن النضر بن أبي النضر عن حجاج بن محمد عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر قال: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلوات وليس ينادي بها أحد فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى وقال بعضهم اتخذوا قرنا مثل قرن اليهود قال فقال عمر بن الخطاب أولا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة قال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا بلال قم فناد بالصلاة. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر.
فهذا اللفظ لا يعرف إلا من حديث ابن عمر والحديث أخرجه أحمد عن عبدالرزاق ([53]) والبخاري عن محمود بن غيلان ([54]) ومسلم عن إسحاق بن إبراهيم ([55]) والنسائي عن محمد بن إسماعيل([56]) كلهم عن طريق ابن جريج عن نافع عن ابن عمر، فالحديث "حسن" لتعدد أسانيده "صحيح" لصحته وعلو رجاله و"غريب" من حديث ابن عمر بهذا اللفظ ولأنه تفرد به ابن جريج عن نافع.
المثال الثاني: حديث أبي هريرة في"الاضطجاع بعد ركعتي الفجر" ([57]).
قال حدثنا بشر بن معاذ العقدي حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فَلْيَضْطَجِعْ على يمينه وفي الباب عن عائشة.
قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة "حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه" وقد روى عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى ركعتي الفجر في بيته اضطجع على يمينه". فالحديث "صحيح" أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها ([58]) بأسانيد متعددة، وهذا الحديث الذي أخرجه الترمذي "حسن" بإسناده، والغرابة فيه من قبل هذا الإسناد فقال: "غريب من هذا الوجه".
قال ابن رجب: وعلى هذا فلا يشكل قوله"صحيح حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه" لأن مراده أن هذا اللفظ لا يعرف إلا من هذا الوجه، لكن لمعناه شواهد من غير هذا الوجه، وإن كانت شواهد بغير لفظه" ([59]).
وإن حصل التفرد في رواية فيحمل قوله على التردد كما قال ابن حجر:
"أن تردد أئمة الحديث في حال ناقله إقتضى للمجتهد ألا يصفه بأحد الوصفين فيقال فيه "حسن" باعتبار وصفه عند قوم، "صحيح" باعتبار وصفه عند قوم وغاية ما فيه أنه حذف حرف التردد (أو) لأن حقه أن يقول حسن أو صحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــ
([1]) (قواعد التحديث 104) طبع دار الكتب العلمية بيروت، ط. 1.
([2]) شرح العلل(1/342)
([3]) الرسالة(ص370) طبع مصطفى البابي الحلبي، بتحقيق أحمد محمد شاكر.
([4]) تدريب الراوي(62) علوم الحديث(مقدمة ابن صلاح) مع التقييد والإيضاح(ص20) طبع: دار العلوم حقانية بدون.
([5]) تدريب الراوي(8788)
([6]) علوم الحديث (5152)
([7]) كتاب العلل(2/340)
([8]) تدريب الراوي(1/156)
([9]) شرح العلل(1/384)
([10]) شرح العلل(1/386)
([11]) علوم الحديث(47)
([12]) نزهة النظر(40) طبع: فاروقي كتب خانة ملتان باكستان.
([13]) علوم الحديث(46)
([14]) علوم الحديث(6364)
([15]) شرح العلل (1/287)
([16]) شرح العلل (1/387)
([17]) علوم الحديث(37)
([18]) معارف السنن(1/87) ايج ايم سعيد كمبنى كراتشى 1404هـ
([19]) كتاب العلل(2/238)
([20]) علوم الحديث(60)
([21]) كتاب العلل(2/340)
([22]) علوم الحديث(270) تدريب الراوي(2/181)
([23]) نزهة النظر(29)
([24]) علوم الحديث(273274)
([25]) شرح العلل (1/413)
([26]) كتاب العلل(2/238)
([27]) سنن الترمذي(1/273)
([28]) شرح العلل (1/414)
([29]) كتاب العلل(2/238)
([30]) سنن الترمذي(1/233)
([31]) شرح العلل (1/415)
([32]) كتاب العلل(2/238)
([33]) البخاري: عن إسماعيل عن مالك عن أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة(5/2062).
([34]) البخاري: عن محمد بن سلام عن عبدة عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر (5/2061).
مسلم: عن زهير بن حرب عن طريق نافع عن ابن عمر(3/1631)
([35]) عن أبى كريب محمد بن العلاء عن أبى أسامة عن بريد عن جده عن أبى موسى، صحيح مسلم(3/1632).
([36]) شرح العلل(1/440-441)
([37]) شرح العلل (1/446)
([38]) كتاب العلل(2/239)
([39]) سنن الترمذي(1/294)
([40]) ابن رجب (1/416)
([41]) سنن الترمذي(1/298)
([42]) علوم الحديث(271) تدريب الراوي(1/179)
([43]) الكفاية(141) طبع: دائرة المعارف العثمانية هند، 1357هج
([44]) شرح العلل 1/407)
([45]) سنن الترمذي(1/98)
([46]) علوم الحديث(59)
([47]) قوت المغتذي على هامش سنن الترمذي(1/8).
([48]) التقييد والإيضاح للعراقي(61) طبع: دار العلوم حقانية باكستان، بدون.
([49]) نزهة النظر(4244)
([50]) سنن الترمذي(1/274)
([51]) سنن الترمذي(1/278)
([52]) سنن الترمذي(1/48)
([53]) مسند أحمد(2/148) طبع: المكتب الإسلامي، بيروت ط، 1، 1389هـ.
([54]) صحيح البخاري(1/219)
([55]) صحيح المسلم(1/285)
([56]) سنن النسائي(2/2) طبع: دار البشائر، بيروت، 2، 1406هـ.
([57]) سنن الترمذي(1/96)
([58]) البخاري(1/225) مسلم(1/508)
([59]) شرح العلل(1/386)